زيد شحاثة
تربينا نحن جيل القرن الماضي, على فكرة “قومجية” كما يحب منتقدوها أن يسمونها, مفادُها أن “ الكيان الإسرائيلي” هو العدو الأول والدائم, وأنها المتحكم بكل قضايا وشؤون العالم, من خلال سيطرتها على كل جوانبه، الاقتصادية، المالية، السياسية، والإعلامية المهمة.
تداولنا بشكلٍ عاطفي، قِصصاً, عن تحكمٍ سَّري لعوائلٍ يهودية، بكل المال العالمي, وسيطرة أخرى على الإعلام بمعظم تفاصيله المهمة، وصار أطفالنا يعرفون أسماءً كـ روتشيلد، مردوخ ، وغيرها كثير. صدَّقنا أن الكل يسعى لخدمة الدويلة الصغيرة “إسرائيل” وتحقيق هدفها بدولةٍ قومية لليهود.. فهل كلُّ هذا صحيح؟!
من يقرأ عن تاريخ اليهود, بعقليةٍ منفتحة وموضوعية, يرى عن قناعة أنهم تعرضوا لإبادات جماعية كثيرة وكبيرة, رغم أن بعضاً منها، كانوا هم (اليهود) من لعِبوا فيها الأدوار الرئيسية, من خلال مواقفٍ مُساندة لجهة دون أخرى، في صراعٍ يتعلق بالنفوذ أو نيل المكاسب, أو نزاع حول سُلطة بين متنافسين، ومن نالهم الجزء الأكبر من الأذى، هم الأبرياء.. ممن لا ناقة لهم فيها ولا جمل, ولم يكن لهم أصلاً موقفٌ بأيّة قضية!
نجاحُهم الأكبر, تمثَّل في تسويق تلك المظلوميات, والانتفاع منها في نيل مكاسب ومنافع, كبرى وإستراتيجية.. حققت لهم في النهاية وطناً مغتصباً, ودولةً عُنصرية، كانوا يحلمون بها, تداولوا خيالاتِها في قِصصهم وتراثهم، جيلاً بعد جيل. نجحوا في كسب حلفاء لهم, أقوياء ومتنفذين على مستوى خارطة العالم السياسية, بل وتحكموا في إرادات دول عظمى, كما نرى في أمريكا مثالاً واضحاً لا لبس فيه. هل أن الأذرع اليهودية هي فعلاً من تتحكم, بالإرادة الأمريكية, ولو على سبيل الضغط والتلاعب؟ أم أن القضية “وهم” يُستخدم للتغطية على اللاعب الحقيقي خلف هذه الستارة المزعومة؟!
هناك حقائق يجب قبولها لا من باب الاستسلام لها, وإنما لفهمها فنحسن التعامل معها.. فاليهود أذكياء, أحسنوا التصرف حين فهموا مفاتيح لعبة الأمم, فأبتعدوا عن الصفوف الأمامية للسُلطة, وتراجعوا لمناطق الظل, حيث المال والثروة, فنجحوا في بناء ثروات طائلة من خلال العمل المصرفي, وإنشاء وامتلاك المؤسسات الاقتصادية الرابحة, واكتفوا بكيانٍ سياسي صغير في قلب العرب، ليشغلوا به العالم, عن قوتهم الحقيقية المتنامية التي نجحت في التحكم بدورة المال في العالم كله, وهي قبضةٌ تتحكم بكل مفاصل الحياة. فهِموا دور الإعلام المتنامي فاتجهوا له. سيطروا على كُبريات الصحف والقنوات الإخبارية, وتحكموا في مفاصل مهمة لمنابر إعلامية أخرى, يسيّرونها توافقاً مع مصالحهم, ومن لم تقبل السير في رِكابهم, كان مصيرها الاضمحلال والاندثار. فكرة تحكمهم بقرارات دول كبرى مثل أمريكا, لتحقيق مصالح دولة إسرائيل, هي نصف كذبة.. فرغم أن إسرائيل دولة قومية لليهود, أو هكذا “سوِّقت” حتّى لليهود أنفسهم, لكن حقيقة الأمور تتعلق بالمال والمصالح لا أكثر، أمّا الحديثُ عن الهدف القومي والديني, فهذهِ أكذوبة مطلقة, فالمال والمصالح لا دين لها، وهما مع السُلطة والهيمنة والتحكم هدفُهم واحد, هو المزيد من المال والثروة والتحكم، لتحقيق المزيد من المال والثروة والتحكم, في دورةٍ لن تنتهِ, ما دام الإنسان موجوداً. حكاية سيطرة اليهود على العالم, شمّاعة أو قناع، تحاولُ دولٌ, كأمريكا وأوروبا وحتّى اليهود وإسرائيل ربُما الاختباء خلفه, لتحقيق مصالحهم المادية، لكننا نحن العرب, نصدِّقُ هذا الوهم، لأننا نحتاجُ لمبرر، لنقنع أنفسنا, أن فشلنا وتراجعنا وسوء أدائنا وتفاعلنا مع مختلف القضايا, سببهُ أن عدونا أقوى منا ويتحكمُ بالعالم! ولم نُفكِّر, كيف نغيّرُ هذا العالم أو على الأقلّ نغيّرُ أنفسنا.