المتواجدون حالياً :40
من الضيوف : 40
من الاعضاء : 0
عدد الزيارات : 74569693
عدد الزيارات اليوم : 5845
أكثر عدد زيارات كان : 216057
في تاريخ : 18 /04 /2019
غرائبية الحدث السردي في (ساعات كالخيول) للقاص محمد خضير
بتاريخ :
الإثنين 01-05-2017 09:58 مساء
احمد عواد الخزاعيrn تميّز الأدب العراقي بظاهرة تعدد الأجيال في فترة قصيرة من تاريخه الحديث، حتى أصبح الحديث عن الأجيال أمراً ملزماً لكل باحث في الأدب العراقي، وبالأخصّ السرد بشطريه ( الرواية والقصة القصيرة)، والملفت للنظر في هذه الظاهرة الأدبية ، أن عمر الجيل الأدبي الواحد، لا يتعدى العقد من السنين،
ولا نكاد نجد صلة كبيرة بين جيلٍ و اَخر ، أي وجود قطيعة فكرية ومنهجية بين تلك الأجيال المتعاقبة، بحيث لا يتمُ جيل ما أنجزهُ الجيل الآخر، فشكّل السرد العراقي حلقات منفصلة بعضها عن بعض، لذا تُعد تجربة محمد خضير الأدبية في القص العراقي، تعبيراً واضحاً عن هذه الظاهرة، فقد تفرد هذا القاص بأسلوبه ( الواقع الافتراضي) المفعم بالغرائبية والعوالم البديلة التي تقذف بمخيلة القارئ الى مديات بعيدة من الدهشة والتفكير والتحليل، وتدخلهُ في أجواءٍ ساحرة مبهرة، تمثلُ صورة أخرى للواقع، عبّر عنها في نتاجاتهِ الأدبية من خلال عدّة مجموعات قصصية، كُتبت ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي ( المملكة السوداء، في درجة 45 مئوية، بصرياثا، رؤيا خريف) . في قصة (ساعات كالخيول)، وهي إحدى قصص مجموعة، صدرت له عام 1998، حملت أسم (تحنيط)، ضمّت عدّة قصص، نُشرت في مجموعاتٍ قصصية سابقة .. تبدأ هذه القصة بتقنية (الاستباق).. أي ذكر عبارة كانت هي في الأصل خاتمة لهذا النص : (فأجدهُ نائماً على فراشي، يديرُ وجههُ للحائط، ويعلّق عمامته الحمراء على المشجب) .rn سارد داخلي يمثلهُ شاب صغير، يروي قصته مع ساعاته القديمة التي ورثها من عمه الذي كان يعملُ بحاراً : (مازلت أملك حتى اليوم مجموعة من الساعات القديمة، تلقيتُها من عمٍ لي كان بحاراً على سفن شركة اندروير) .. من هذه العتبة السردية، ينطلق بنا محمد خضير في عوالمه الغرائبية نحو الدهشة، مستخدماً عنصر الزمن بكلِّ دواله الحسية والمادية (الساعات، دفتر المذكرات، فصل الربيع، الماضي، الحاضر). هذا الزمن، شكّل محوراً رئيسياً، دارت حوله رحى السرد القصصي (الزمن المحشو كقطن قديم في حشية صغيرة). ساعد في بلورة هذا المفهوم الإبراز الجميل لثقافة المكان كما عرفها فوكو ( إخراج المكان من عالم السكوت الى المنطق) ، كما في النص الاَتي :( ثمّ هاهي أرصفة الفاو، تقود المصابيح جسورها الخشبية فوق الماء الى مسافة، وترسو في الفسحات بينها زوارق متجاورة تتأرجح أضوائُها ). إنّ اتحاد هاذين العنصرين المهمين في السرد ( الزمان والمكان ) بهذه الطريقة الفنية الجميلة، جعل من الضرورة الخوض بمصطلحين سرديين، هما (واقعية العمل السردي، وفنّية العمل السردي). حملت القصة تفاصيلاً تمثلُ حركة البطل داخل النص، وتصوير المشاهد ووصفها، والحوارات المقتضبة، مما جعل جزءاً منها يحملُ سمة واقعية انطباعية الى حد كبير. يقرر الشاب بطل القصة، حمل إحدى ساعات عمه القديمة العاطلة عن العمل في جيب سترته، فيدّلُه (قهوجي) المقهى الذي جلس فيه على مُصلّح للساعات القديمة يسكن مدينة الفاو التي تطل على الخليج العربي، أقصى جنوب محافظة البصرة، مسرح أحداث القصة (الطريق الى الفاو موحل، ومازلت أؤجلُ السفر، حتى كان صباح فيه مشمس، فاتخذتُ مكاناً بين الركاب في باص، أنطلق بنا محملاً بالأمتعة) . كلّ شيء في النص يرتد نحو الماضي، ويخوض في الماضي .. الشوارع، الأبنية، الأسواق، بيت مُصلّح الساعات الذي تحول الى آلة كبيرة للزمن، مُلأت باحته وجدرانه بالساعات القديمة التي تدق حسب التوقيت في كلّ بلدان العالم: ( ثمّ ضجت القاعة بالرنين: هل دقّت سبعاً؟ الليل في أندنوسيا.. أتُميّز الدقات الأثنتي عشر الأخيرة ؟ أنهم يغطون في سُباتٍ في أقصى الغرب من الأرض) . رسّخ حضور الماضي بكلِّ تجلياته، القصص والحكايات التي رواها البحار القديم (مُصلّح الساعات) لذلك الشاب عن رحلاته الغريبة ، والتي تُعد انتقالة سردية في متن النص بين الواقعية الانطباعية التي بدأ بها ،وبين حكايات غرائبية هي أقرب الى الخيال، أستحضرها البحار القديم في عملية ( استرجاع خارجي) كما عبّر عنه الناقد جيرار جينيت، كان هذا الارتداد يمثلُ للبحار القديم، كنوع من التعويض النفسي عن حالة عزلة ، فرضها على نفسه في بيته، امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، تلك المشاهد شكّلت واقعاً افتراضياً موازياً للواقع، زجّ به القاص ليقدّم لنا رؤية اجتماعية ونفسية مركبة، حين أنتقل السرد من الشاب الى ذلك البحار القديم، هذان الراويان الداخليان اللذان تربطهما علاقة إيجابية نامية كما عبّر عنها (فوستر)، شكّلا حالة من التبئير السردي، كانا فيها في حالة انسجامٍ مع طبيعة الشخصية المتحركة داخل النص ( الراوي= الشخصية). تلك الرؤية التي عرفها تودروف ( أنها أهم شيء في العمل الأدبي، ففي الأدب لا نواجه أحداثاً أو أموراً في شكلها العام، وإنما نواجهُ أحداثاً معروفه بطريقةٍ ما، وتتحدى مظاهر أي شيء بالرؤية التي تُقدّم لنا عنه)، فقد أشارت تلك الرؤية الأدبية في جزءٍ منها الى وحدة ثقافات منطقة الخليخ العربي، والامتزاج الحضاري والفكري والإنساني بين سُكانها ، كما في قصة البحار القديم التي روى جزء منها الشاب : (تزوجت في البحرين من امرأة، أنجبت ثلاث بنات أعطيتُهن لأبناء البحر)، وقد حمل هذا النص بالإضافة الى سمة الواقعية الممزوجة بعوالم غرائبية ، سمة فنية جمالية خلاقة من خلال تقنية الوصف الدقيق للأشياء، واللغة المستخدمة في السرد، والتي كانت سهلة منسابة، تتماهى مع الإيقاع السردي الذي طغى على النص، والمتسم بالحوارات الهادئة، والانتقالات السردية الانسيابية، إمّا العنوان الذي يمثلُ مفتاح العمل، والعتبة الأولى لدخول عوالم النص، فأنهُ كان يعبّرُ عن تداخلٍ فكري عفوي حدث في مخيلة البطل الشاب، كنتاج لسماعه قصص البحار القديم (مُصلّح الساعات) في رحلاته الغريبة وعمله مع تجار الخيول عبر البحار، وصدمته واندهاشه لرؤيته الساعات الكبيرة والقديمة التي كانت تغطي جدران بيته وفناء داره (فتحت الغطاء، كانت العقارب تدب، أطبقت على الساعة راحة يدي، وأنصتنا للبحر يدوي في ساعات القبو، القوائم الرشيقة للخيول تجري في شوارع الميناء). يشكل أدب محمد خضير علامة مضيئة في تاريخ القص العراقي، وعليه يجب العمل على تحويله الى منهجية أدبية، تُدرّس لذوي الاختصاص في هذا المجال، للحفاظ على ديمومته، خشية من حدوث أي قطيعة أدبية معه، تؤدي الى اندثاره.