المتواجدون حالياً :43
من الضيوف : 43
من الاعضاء : 0
عدد الزيارات : 74892283
عدد الزيارات اليوم : 389
أكثر عدد زيارات كان : 216057
في تاريخ : 18 /04 /2019
مُصطفَى عبدُالله
أضاف شعراء المهجر روافد جديدة إلى الأدب العربي شعره ونثره، وإن كان للشعر منزلته العليا عندهم، كما كانت له المنزلة ذاتها في كل الحضارات في مراحلها الأولى.ولكن فنون النثر أخذت حقها من الاهتمام مع تطور المجتمعات وحاجتها إلى أجناس أدبية تكون أكثر تعبيرًا عن تطورها الاجتماعي والثقافي كفنون المسرح، والخطابة، والقص، والمقال.
اكتسب الشعر على أيدي شعراء المهجر مكاسب كثيرة، منها تجديد الرؤية، وتطوير أدوات التعبير، وتنوع الصياغة، والجرأة في الإبداع، وهي مزايا جعلت لمدرسة المهجر أهمية خاصة في الشعر العربي الحديث، وفي شق طريق القصيدة نحو المستقبل.
والمهجر يقصد به الارتحال صوب العالم الجديد في الغرب، بحثًا عن ظروف حياة أفضل ومعاملة إنسانية أكرم. وأكثر من هاجروا من العرب كانوا من أبناء الشام في سوريا ولبنان، بحثًا عن حياة أفضل ورزق أوسع.
تفرق المهاجرون في دول المهجر، وبعد أن اطمأنوا إلى حياتهم واستقر بهم المقام، راحت قرائح الشعراء منهم تستعيد ذكريات أيام عاشوها في أوطانهم، وحياة جديدة في مهاجرهم، وتكونت من المهاجرين إلى الولايات المتحدة مجموعة من الشعراء كانوا أميل إلى التجديد في القصيدة، أطلقوا على جماعتهم "الرابطة القلمية"، بينما كان تجمع الشعراء الذين هاجروا إلى أميركا الجنوبية يحمل اسم "العصبة الأندلسية"، وكانوا أميل إلى المحافظة.
ومن أبرز من ظهر من شعراء المهجر: جبران خليل جبران، أمين الريحاني، إيليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة، الأخطل الصغير، إلياس أبو شبكة، ومي زيادة.
وكان من أهم المبدعين الذين التحقوا بشعراء المهجر الشمالي أحمد زكي أبو شادي الذي أسس جماعة "أبولو" التي ضمت، إلى جانبه، الشعراء: علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، ومعهم أو بالقرب منهم أبو القاسم الشابي من تونس، محمد الفيتوري من السودان، محمد مصطفى الهمشري من مصر، وقد مات في مطلع شبابه وهو لايزال طالبًا بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، تاركًا ديوانًا واحدًا هو "النارنجة الذابلة”.
أفاد أبو شادي من تجربة المهجر جرأة التجديد، وصدق التعبير عن الحال والزمان المعاصر، والخروج من أسر القصيدة التقليدية التي تسيل على الألسن فور التفكير في موضوعها.
وكانت رحلة الشعراء بحثًا عن الشكل الجديد، والفكرة الجديدة، والمعنى الجديد بطرائق غير معروفة، وصور غير تقليدية، فإذا كان أصحاب الخيمة، منذ العصر الجاهلي، قد ربطوا عمود الشعر بعمود الخيمة في بحوره وتفعيلاته وقوافيه، فإن أصحاب الحضارة الحديثة، الذين تحرروا من سيطرة الخيمة في مهاجرهم العصرية، حرروا أنفسهم من صور الشعر التقليدية، وأدواته المستهلكة، وابتكروا في الشكل "شعر المقطوعات"، وتعدد الفقرات، وتغير الأوزان، وعدم الالتزام بالقوافي مع الحرص على حيوية اللغة وسلامتها.
هذا هو المنهل الذي بنى عليه أبو شادي طريقته في صياغة القصيدة الجديدة، ولذلك أطلق اسم "أبولو" إله النور والمعرفة على مدرسته التي اختار واحدًا من أكبر الشعراء الذاتيين في العصر الحديث، "خليل مطران"، ليصبح رئيسًا لها.
وها نحن اليوم نلتقي بمهاجر أحدث قدم من الشرق، وتحديدًا من مصر، لينضم إلى قافلة المهاجرين إلى العالم الجديد؛ الدكتور شريف ماهر مليكة، الطبيب المبدع الذي تعلق بحداثة الغرب، وتقدمه، ونمط حياته، ونهل من علمه وأدبه وفكره، وانصهر في بوتقته، دون أن يفقد هويته المصرية أو يضحي بموروثه الثقافي الذي تشكل في وجدانه على امتداد سني شبابه في الوطن الأم، فحمله معه لإدراكه أن كينونته كمبدع تكمن في قبضه على هذا الموروث الذي لا ينبغي أن يذوب أو ينصهر، أو يطويه النسيان مع أيام الهجرة، أو انشغالات الحياة اليومية وضغوطها.
إنه شيء فيه الحنين والحب والأصالة، ارتباط يكاد يكون التزامًا.
كتب شعر العامية المصرية وأصدر (أربعة دواوين)، وكتب القصة القصيرة ونشر (مجموعتين)، وفي الرواية قرأنا له (خمس روايات)، وها هو يطالعنا في مجموعة قصصه الثالثة التي أطلق عليها عنوان إحدى قصصه "سحر الحياة"؛ فماذا عن سحر الحياة. وسر مليكة؟
إنها الحالة الذهنية التي تتلبس المغتربين منا فتكوِّن جزءًا من وعيهم في الواقع الجديد، وجل باطنه في ماضيهم أو تاريخهم الذي تشكل فيه الوجدان، وتكونت الملَكات.
لهذا يكون المهاجر المبدع دائم التنقل بين الواقع والحلم، أو الواقع والذكرى، أو الواقع والتاريخ.
وهذه سمات الشخصية المركبة التي تدرّجت في أجواء مختلفة.
مليكة ليس غربيًا من أصل غربي، يعيش في الغرب بمفاهيم الغرب القديم، وعقل الغرب القديم ونفعيته، وليس شرقيًا من أصل شرقي يعيش في مجتمع الشرق بمثالياته وقيمه وعواطفه ودفء مشاعره؛ إنه الاثنان معًا، دفء الشرق وسحره وروحانيته، وعقلانية الغرب ونفعيته وعلمه وبرودة ذهنه. لهذا يعيش الإنسان في داخله تارة بعقل بارد، وتارة بقلب دافئ. وهذا ما نلمسه في مجموعته التي بين أيدينا؛ فنحن أمام حالة إنسانية فيها عامل مشترك بين قصصها، بصرف النظر عن اختلاف الموضوعات والشخصيات والأحداث.
ففي قصته "سحر الحياة" التي تحمل المجموعة عنوانها، وهي من أطول النصوص وأكثرها غرابة، جمع مليكة بين تصوير عالم المهاجر في واقعه الجديد بتفاصيله وغرائبيته، وارتباطه بتقاليد عائلية موروثة لا تعرف إلا ضرورة الحفاظ عليها مهما اختلف نمط الحياة الجديدة عنه في الوطن الأم!